شخصيات إسلامية: أبو عبيدة بن الجراح – الحلقة الرابعة

شخصيات إسلامية: أبو عبيدة بن الجراح – الحلقة الرابعة
شخصيات إسلامية: أبو عبيدة بن الجراح الحلقه الرابعة

تقييم معركة اليرموك
كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي لبلاد الشام، فقد لقي جيش الروم أقوى جيوش العالم، يومئذ هزيمة قاسية، وفقد زهرة جنده، وقد أدرك هرقل الذى كان في حمص، حجم الكارثة التي حلت به، وبدولته فغادر سوريا نهائيا، وقلبه ينفطر حزنا، وقد ترتب على هذا النصر العظيم أن إستقر المسلمون في بلاد الشام.

وإستكملوا فتح مدنه جميعا، ثم واصلوا مسيرة الفتح إلى الشمال الأفريقي، ويمكن النظر إلى معركة اليرموك كمثال في التاريخ العسكرى، عندما تستطيع قوة عسكرية صغيرة تحت قيادة حكيمة التغلب على قوة عسكرية تفوقها عددا وعدة، ولقد سمح قادة الجيش الإمبراطورى لعدوهم بإختيار أرض المعركة، التي يريدها وحتى ذلك الحين لم يكن لديهم ضعف تكتيكي كبير، ولقد عرف قائد المسلمين خالد بن الوليد منذ البداية بأنه أمام قوة كبيرة جدا،وحتى اليوم الأخير من المعركة أدار خطة دفاعية فعالة ملائمة لمصادره المحدودة نسبياً.

وعندما قرر الهجوم في اليوم الأخير من المعركة فقد قام بذلك على درجة من التخيل، وبعد النظر والشجاعة الأمر الذي لم يتصوره أى من القادة البيزنطيين، وبالرغم من أنه قاد قوة صغيرة عدديا، وكان بأمس الحاجة إلى كل الرجال الذين يمكن جمعهم، كانت لديه الجرأة، وبعد النظر لشطر فرقة من خيالته في الليلة التي سبقت هجومه لتأمين الطريق الحيوي لإنسحاب عدوه.

وفي واقع الأمر كان خالد بن الوليد واحدا من أجود قادة الفرسان في التاريخ، حيث أظهر إستخدامه للقوة الراكبة طوال المعركة، مدى فهمه لإمكانيات وقوة جنود الفرسان، حيث قامت فرقة خيالته المتحركة بتحركات سريعة من نقطة إلى أخرى محاولة دائما مجرى الأحداث في المكان الذي تقدم عليه ثم تعدو بسرعة إلى مكان آخر من ارض المعركة، لتغير بشكل فعال المسار الذى تذهب إليه المعركة وفي الوقت نفسه لم يتعامل القادة الروم أبدا بشكل فعال مع قوة الفرسان حيث لم تلعب فرق خيالتهم أى دور مهم في المعركة.

بل حفظت كقوة إحتياطية ساكنة معظم أيام المعركة، ولم يدفع الجند البيزنطيين أبدا بهجوم حاسم، حتى عندما حققوا ما كان ممكن ان يكون إختراقا حاسما في اليوم الرابع، ففشلوا في إستغلاله فقد ظهر جليا إفتقاد جميع القادة البيزنطيين القدرة على إيجاد الحلول، وكان السبب في ذلك يعود إلى الخلافات الداخلية فيما بينهم والتي أوجدث صعوبات في القدرة على قيادة الجيش وأكثر من ذلك.

فإن كثيرا من جنود القوات العربية المسيحية المساندة في الجيش البيزنطي كانوا قد جندوا كعمل بديل عن دفع الضرائب بينما كان الجيش العربي الإسلامي مكونا في الجزء الأكبر منه من مقاتلين متمرسين ومحنكين وكانت الإستراتيجية الأصلية لهرقل للقضاء على جنود المسلمين في الشام تقتضي السرعة في التنفيذ وفي نشر الجنود لكن لم يلتزم القادة على الأرض ابدا بهذه المقومات.

ومن المثير للسخرية أن خالدا قاتل بقوة تكتيكية صغيرة الحجم وهي خطة هرقل التي لم تنفذ وذلك من اجل الحصول على سرعة في نشر الجنود والسرعة في المناورة وإستطاع خالد جمع قوة كافية مؤقتا في أماكن محددة على أرض المعركة من أجل أن يهزم كل جزء من الجيش البيزنطي على حدة بينما لم يتمكن قادة الروم ابدا من الإستفادة من تفوقهم العددى.

ولم يحاولوا في أى مرحلة من المعركة جمع قوة كبيرة لأجل تحقيق إختراق حاسم في صفوف الجيش المسلم على الرغم من أنهم كانوا في حالة الهجوم طوال الأيام الخمسة الأولى بحيث أن خط جنودهم بقي مستقرا على نحو كبير بينما حقق خالد ذلك في اليوم الأخير من المعركة عندما أعاد تجميع كل خيالته وقادهم عبر مناورة تكتيكية عظيمة والتي أدت في النهاية إلى الظفر بالنصر .

معركة فحل   شخصيات إسلامية أبو عبيدة بن الجراح

معركة فحل
شخصيات إسلامية أبو عبيدة بن الجراح

معركة فحل :(دور أبو عبيدة بن الجراح)

وبعد معركة اليرموك كانت معركة فحل وجرت بين المسلمين والروم في غور الأردن قرب مدينة بيلا الرومية في أول شهر ذى الحجة عام 13 هجرية الموافق يوم 25 يناير عام 635م، وهي تسمى في المراجع الغربية واليونانية بإسم معركة بيلا فبعد الهزيمة التي لحقت بالروم في معركتي أجنادين واليرموك.

بدأ الروم يجمعون قواهم في أحد حصونهم المنيعة في مدينة بيلا التي تقع على إرتفاع 150 متر فوق سطح البحر وتطل على غور الأردن على بعد حوالي 50 كم جنوبي نهر اليرموك وكان هذا التجمع للروم في تلك المنطقة يشكل خطرا محدقا على جيش المسلمين المتوغل شمالا نحو دمشق وحمص لأن أى هجوم يقوم به الروم شرقا سيؤدى إلى قطع خطوط الإمدادات من الجزيرة العربية.

فقرر أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الإنسحاب جنوبا من وسط سوريا لتدارك الخطر في أغوار الأردن وكان ابو عبيدة قد توالى القيادة العامة لجيوش المسلمين بالشام بعد وفاة أبي بكر الصديق.

وتولى عمر بن الخطاب الخلافة والذى قام بعزل خالد بن الوليد رضي الله عنه من القيادة العامة، وعين أبا عبيدة بدلا منه وإلتقى الجيشان قرب بيلا التي سار أبو عبيدة إليها وبعث خالد بن الوليد على المقدمة وعلى القلب شرحبيل بن حسنة.

أمين الأمة: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
أمين الأمة: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

وكان على المجنبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص وعلى الخيل ضرار بن الأزور وعلى الرجالة عياض بن غنم الفهرى وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان فنزل شرحبيل بجنده فحل وكان الروم قد قاموا بشق قنوات مائية من بحیرة طبریة وسلطوا میاهها على الأراضي المحیطة بالمدینة لمنع تقدم جیش المسـلمین فكانت بين جيش المسلمين وجيش الروم مياه وأوحال ولذا كانت العرب تسمي تلك الغزوة ذات الردغة وبيسان وفحل.

وفرض جیش شرحبیل بن حسـنة حصارا شدیدا على فحل وإستهدف حرمان الروم من إستغلال التحصینات المائیة التي أقاموها وكان لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة ودار بين الطرفين قتال شديد طوال النهار وحتى أظلم الليل عليهم وتمكن جيش المسلمين من دفعِ قوات الروم نحو الغرب بإتجاه القنوات والمستنقعات المائية الدفاعية التي أقاموها وإنتهت المعركة بإنتصار المسلمين نصرا حاسما وأصيب قائد الروم وفر الجنود فلحقهم المسلمون وقتلوا الكثير منهم وسقط عدد كبير منهم في الطين والأوحال فوخزوهم بالرماح.

وهزم الروم شر هزيمة وكانوا ثمانون ألفا لم يفلت منهم إلا الشريد وأكرم الله المسلمين وهم كارهون فقد كرهوا المياه والطين والأوحال فكانت عونا لهم على عدوهم وغنموا أموالهم فإقتسموها وهكذا سیطر المسلمون بعد معركة فحل على بیسان وتلتها طبریة حيث كانت أنباء إنتصارات شرحبیل بن حسـنة قد بلغت أهل طبریة فتهیأوا للصلح وتركوا فكرة القتال أمامه، ثم واصلت قواته تقدمها بإتجاه بقیة مدن الأردن لتحریرها من الروم.

وإضطر سكان تلك المدن إلى طلب الأمان وكتبت عهود الصلح في كل مكان بمنح الأمان لهؤلاء السكان على أرواحهم ودورهم وأموالهم وأراضيهم وكنائسهم ومعابدهم مقابل الجزية .

دور أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في فتح دمشق
دور أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في فتح دمشق



فتح دمشق: القائد أبو عبيدة بن الجراح 


وعاد المسلمون من الأردن وإتجهوا نحو دمشق فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوة وحاصر جيش المسلمين المدينة وتحصن أهلها داخل أسوارها وأغلقوا أبوابها وكان لديهم أمل بوصول نجدة من الشمال على وجه السرعة تفك الحصار عن المدينة ووزعت مهام الحصار بأن نزل أبو عبيدة بن الجراح على باب الجابية، وخالد بن الوليد على الباب الشرقي ويزيد بن أبي سفيان على باب كيسان وعمرو بن العاص على باب الفراديس وشرحبيل بن حسنة على باب توما وعمد أبو عبيدة إلى عزل المدينة عمن حولها وقطع جميع إتصالاتها مع العالم الخارجي.

حتى يجبر حاميتها على الإستسلام فأرسل ثلاث فرق عسكرية تمركزت إحداها على سفح جبل قاسيون على مسافة خمسة كيلومترات إلى الشمال من المدينة عند قرية برزة والثانية على طريق حمص لكي يحول دون وصول الإمدادات من الشمال وقطع الإتصالات بينها وبين القيادة البيزنطية والأخيرة على الطريق بين دمشق وفلسطين لقطع طريق الجنوب.

وطال أمد الحصار على الدمشقيين والذى دام سبعين ليلة وقيل أربعة أشهر وكذلك ستة أشهر وإزداد التوتر بينهم وبخاصة بعد أن إنسحبت الحامية البيزنطية من مواقعها تاركةً للدمشقيين تدبير أمرهم بأنفسهم ولما يئسوا من وصول نجدة تنقذهم وتجلي المسلمين عن مدينتهم وهنت عزيمتهم ومالوا إلى الإستسلام وكان ذلك على الأرجح في منتصف عام 15 هجرية الموافق منتصف عام 636م وتتباين روايات المصادر في وصف أيام دمشق الأخيرة قبل دخول المسلمين إليها وفي تحديد كيفية هذا الدخول.

فقد ذكر البلاذرى أن أبا عبيدة دخل المدينة عنوة من باب الجابية ولما رأى الأُسقف منصور بن سرجون أنه قارب الدخول بادر إلى خالد فصالحهُ وفتح له الباب الشرقي فدخل الأُسقف معه ناشرا كتاب الصلح وإلتقى خالد مع أبي عبيدة بالمقسلاط وهو موضع النحاسين بدمشق فتحدث بعض المسلمين في ذلك معترضين على عدم جواز صلح خالد بن الوليد كونه ليس أمير الجيش لكن أبا عبيدة أجازه قائلا أنه يجيز على المسلمين أدناهم

فأمضى الصلح ولم يلتفت إلى ما فتح عنوة فصارت دمشق كلها صلحا وكتب بذلك إلى عمر وأنفذه وروى الإمام محمد بن جرير الطبرى رواية عكسية وهي أن خالد هو من إقتحم المدينة بعد أن تسلق سورها في أحد الليالي ومعه القعقاع بن عمرو التميمي بعد أن علم أن أهل دمشق مشغولون بالإحتفال بميلاد إبن لحاكم المدينة الرومي فإستيقظ السكان مذعورين على جند المسلمين يلِجونها ويمعنون في الجنود الروم تقتيلا ففتحوا أبواب مدينتهم للفرق الإسلامية الأُخرى.

ولجأوا إلى أبي عبيدة يعرضون عليه الصلح فقبل عرضهم ودخل كل قائد من الباب الذى هو عليه صلحا بإستثناء خالد الذى كان قد دخل عنوة وكان صلح دمشق على المقاسمة على الدينار والعقار وعلى جزية دينار عن كل رأس لِأن جانبا من المدينة فُتح عنوة فكان كله حقا للمسلمين في حين فتح جانب منها صلحا فوجبت عليه الجزية دون سواها لذلك أخذ المسلمون نصف ما في المدينة من كنائس ومنازل وأموال بحكم الفتح عنوة وفرضوا الجزية بحكم الفتح صلحا وذلك بحسب المؤرخ إسماعيل بن كثير.

وأخذ المسلمون عدد 7 كنائس من أصل 14 القائمة بدمشق كما إقتسموا الكنيسة الكبرى وهي كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان مع الدمشقيين فتركوا نصفها للمسيحيين يقيمون فيه صلواتهم وجعلوا النصف الآخر مسجدا جامعا وفيما بعد وفي عهد الخليفة الأموى السادس الوليد بن عبد الملك تم بناء المسجد الأموى في موقع هذه الكنيسة فإحتج المسيحيون على هذا الإجراء.

فأعاد الوليد للمسيحيين باقي الكنائس التي كان قد إستولى عليها المسلمون عند فتح دمشق كتعويض مناسب ومرضي لهم وإنتهى البناء قبل وفاته بوقت قصير في عام 96 هجرية الموافق عام 715م وجدير بالذكر أن الأمانة تقتضي منا أن نذكر أن أحداث فتوحات الشام مختلف علي ترتيبها فإحدى الروايات تفيد بأن معركة فحل وفتح دمشق كانا قبل معركة اليرموك وتفيد روايات أخرى أن معركة اليرموك قد وقعت أولا بعد معركة أجنادين وتلاها معركة فحل وفتح دمشق وقد أخذنا في هذا المقال بالرواية الثانية وهي الأشهر .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب وأي نسخ أو تعديل أو تضمين للمقال يتم من خلال الكاتب / أ. طارق بدراوي .

انتظرونا في الحلقات القادمة مع أحداث جديدة من حياة الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من سلسلة الشخصيات الإسلامية العظيمة، نتعرف معا عن قرب عليها ونلقي الضوء على جوانب حياتية ومعلومات قيمة لا يعرفها الكثيرون فتابعونا ،،

 

شارك الخبر

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *