شخصيات إسلامية: خالد بن الوليد – الحلقة الخامسة

شخصيات إسلامية: خالد بن الوليد – الحلقة الخامسة
شخصيات إسلامية: خالد بن الوليد - الحلقة الخامسة

خروج خالد بن الوليد من الحيرة متوجها لبلاد الشام وفتح تدمر والقريتين وحوارين، توقفنا في الحلقات السابقة قبل أن نستعرض أسباب تفوق خالد بن الوليد على الفرس في معاركه في العراق عند نقطة إستدعاء الخليفة أبي بكر الصديق له إلى جبهة الشام التي كان موقف جيوش المسلمين الأربعة بها في غاية الحرج وخرج خالد بن الوليد من الحيرة في يوم 8 صفر عام 13 هجرية الموافق يوم 14 أبريل عام 634م مصطحبا نصف جيش العراق.

وكان قوامه تسعة آلاف مقاتل وترك مثلهم في العراق مع المثنى بن حارثىة الشيباني وأرسل رسالةً عامةً إلى المسلمين في الشام يخبرهم بأمر الخليفة بنجدتهم ورسالة خاصَّة إلى أبي عبيدة بن الجراح القائد العام لجيوش الشام يخبره بأمر الخليفة تعيينه قائدا عاما لجيوش المسلمين في هذه البلاد وإخترق الصحراء التي تفصل العراق عن الشام في ثمانية أيام وقيل خمسة أيام في طريق وعرة لم يسلكها أحد قبله وهي طريق قراقر عين التمر سوى أرك تدمر القريتين الغوطة بصرى.

ويتميز هذا الطريق بأنَه خال من قلاع الفرس والروم ومسالحهم ويصل بسالكه إلى بصرى دون أن يتعرض لهجمات العدو وإجتهد خالد بن الوليد حين أشرف على الشام وأراد قبل أن يتوغل فيها ألا يترك خلفه مواقع قائمة للبيزنطيين أو لحلفائهم من العرب فصالح أهل المصيخ وبهراء وأرك بعد أن إصطدم بهم وضرب الحصار حول تدمر والتي كانت من المراكز العسكرية المحصنة فحاصرها المسلمون من كل جانب وقد تحصن بها أهلها فهددهم خالد بن الوليد.

وقد أصر على فتحها ويبدو أنهم كانوا قد أدركوا حرج موقفهم في ظل غياب الدعم البيزنطي فمالوا إلى طلب الصلح وفتحوا أبواب مدينتهم للمسلمين وواصل المسلمون سيرهم حتى وصلوا إلى القريتين فإعترضهم أهلها وجرى إشتباك بين الطرفين أسفر عن إنتصار المسلمين ثم مروا بحوارين فتحصن أهلها وراء أسوارها وطلبوا مساعدة عاجلة من المدن والقُرى المجاورة فجاءهم جيشان الأول من بعلبك والثاني من بصرى يبلغ عددهما أكثر من أربعة آلاف مقاتل.

لكن المسلمين إصطدموا بهما قبل أن يصلا وشتتوهما فإضطَّر أهالي حوارين إلى قبول الصلح وتوجه المسلمون بعد حوارين بإتجاه الجنوب قاصدين غوطة دمشق فإعترضهم الغساسنة بقيادة الحارث بن الأيهم وجرى إشتباك بين الطرفين أسفر عن إنتصار المسلمين وتراجع الغساسنة إلى حصون دمشق وواصل المسلمون تقدمهم حتى بلغوا الثنية ووقفوا على التل المعروف بهذا الإسم.

ونشروا عليه الراية السوداء المسماة بالعقاب وهي راية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأغاروا على بعض قرى الغوطة وعسكروا أمام الباب الشرقي لدمشق على دير صليبا وفي رواية أن خالدا عسكر على باب الجابية الغربي وأجرى مباحثات مع أُسقف المدينة وعامل هرقل منصور بن سرجون أسفرت عن معاهدة صلح وكتب خالد بن الوليد كتابا لِأهل المدينة يتعهد لهم بأنه لو دخلها لن يتعرض لهم أحد في أنفسهم وأموالهم وكنائسهم.

وأن لا تسكن دورهم طالما أعطوا الجزية ومن الواضح أن دمشق لم تكن هدف خالد في هذه المرحلة إنما أراد فقط أن يحمي مؤخرة جيشه عندما يستأنف الزحف بإتجاه الجنوب .

خالد بن الوليد: فتح بصرى
خالد بن الوليد: فتح بصرى

خالد بن الوليد: فتح بصرى

وكان القائد العام لجيش المسلمين في بلاد الشام أبو عبيدة بن الجراح رضي االله عنه قبل وصول خالد بن الوليد قد وجه شرحبيل بن حسنة في أربعة آلاف مجاهد إلى بصرى وإذا بالمدينة تفاجأ بقدوم شرحبيل بجيشه وعسـكره وكان على بصرى بطريق عظيم الشأن والقدر عند الإمبراطور الرومي وعامة الروم إسمه رومانس وكان يجتمع إلیه الروم من أقصى بلادهم يستمعون إلى ألفاظ حكمته ومواعظه فهرع الناس إليه يسألونه الحل والمخرج لهذا المأزق.

شخصيات إسلامية
شخصيات إسلامية

فخرج البطريرك يسأل قائد جیش المسلمين عـن مهمتهم وغـرض قدومهم وبعد محاورة طويلة بينهما أيقن البطريرك أن الإسلام حق وأن نبيه صلى االله عليه وسلم هو الذى بشرت به كتبهم ونصح قومه بأن يؤدوا الجزية ويصرفوا المسلمين عـنهم وأخفى إسلامه خشية أن يتمردوا علیه ویقتلوه وفعلا غضبوا علیه وهموا بقتله فقال لهم مستدركا كلامهم وأراد أن یهدئهم لاتعجلوا یاقوم إنما أردت أن أختبركم وأرى مبلغ حمیتكم لدینكم.

والآن دونكم والقوم وأنا فـي مقدمتكم فإستعد الروم وجمعـوا جمعهـم وتجهـزوا للمنازلة فلما رأى شـرحبیل رضي الله عنه ذلك وقف في الجیش خطیبا یذكرهم بمعاني الجهاد وفضل الإستشهاد لتكون كلمة الله هي العلیا وكلمة الذین كفروا السفلى حيث قال لهم أیها المسلمون إعلموا رحمكم الله أن رسول الله صلى الله علیه وسلم قال الجنة تحت ظلال السـیوف وأحب ماقرب إلي الله قطرة دم في سبیل الله أو دمعة جرت في جوف اللیل من خشیة الله تعالى.

یا أیها الذین آمنوا إتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ثم حمل المسلمون على جیش بصرى حملتهم وإلتحم الجیشان ولم یزل القتال محتدما بينهما إلى أن توسطت الشمس في قبة الفلك وكاد العدو أن ينال من المسلمين وأن يبدد جمعهم فرفع شرحبيل رضي الله عنه یدیه یدعو الله بحرارة وصدق ویقول یا حي یا قیوم یا بدیع السماوات والأرض یا ذا الجلال والإكرام اللهم إنك تعلم أننا جئنا إلـى هـذا المكان لننصر دینك ووعدك الحق فإنصرنا على القوم الكافرین.

وما أن أكمل شرحبيل دعاءه حتى جاء النصـر المؤزر من عند االله العزیز الحكیم حيث شوهدت غبرة قـد أشرفت خلف جيش المسلمين من عند حوران فلما إقتربت منه فإذا تحتها جيش على مقدمته فارسان أحدهما ينادى ويصيح يا شرحبیل یا إبن حسنة أبشر بنصر االله أنا خالد بن الوليد والآخر یصیح وأنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصدیق فتعانق الجیشان وإشتبكا في قتال شدید ولما هدأت المعركة تسلم القیادة العامة خالد بن الولید رضي الله عنه.

فأمر الجیش بالراحة إستعدادا للمنازلة في الیوم التالي وما أن طلع الفجر إلا وتحركت جموع الروم وزحفت على المسلمین وإســتعد لها المسـلمون وأخذوا أهبتهم للحرب فجعل خالد رضي الله عنه ینظم الجیش بسرعة فائقة وبقي هو في القلب یعظ الناس ویوصیهم بالثبات فلما نظر جیش بصرى تنظیم جیش المسلمین دبَ فـي صفوفهم الرعب وتلاقى الفریقان وإشتبكا وحمل المسلمون حملتهم وإرتفعت أصواتهم بالتهلیل والتكبیر.

فلم یكن للروم من ثبات مع المسلمین فولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وتراجعوا الى مدینتهم بصرى فدخلوها وتحصنوا بأسوارها وأحكموا غلق أبوابها فشدد المسلمون الحصار علیها وفي أثناء ذلك إستطاع البطریق رومانس أن یفلت من قومه ویأتي خالدا لكي یعلن إسلامه وینضم إلى صفوف المسلمین ویعینهم على فتح أبواب المدینة وإقتحامها وبذلك إنتهت المعركة بإستسلام الروم وإنتصار المسلمین وكانت بذلك بصرى أول مدينة فتحت صلحا في الشام وأول جزية وقعت في هذا البلد في عهد الخليفة العظيم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفقا لرواية البلاذرى .

 خالد بن الوليد في معركة أجنادين
خالد بن الوليد في معركة أجنادين

معركة أجنادين

وبعد فتح بصرى كانت معركة أجنادين في شهر جمادى الأولى عام 13 هجرية الموافق شهر يوليو عام 634م حيث أنه بعد سقوط بصرى إستنفر هرقل إمبراطور الروم قواته وأدرك أن الأمر جد لا هزل فيه وأن مستقبل الشام بات في خطر ما لم يواجه المسلمين بكل ما يملك من قوة وعتاد حتى تسلم الشام وتعود طيعة تحت إمرته فحشد العديد من القوات الضخمة وجهز جيشا ضخما قوامه سبعين ألف مقاتل ووجهه إلى سهل أجنادين إلى الغرب من القدس الشريف.

وإنضم إليه نصارى العرب والشام وشكل خالد بن الوليد جيشه الذى كان قوامه حوالي ثلاثين ألف مقاتل ونظمه ميمنة وميسرة وقلب ومؤخرة فجعل على الميمنة معاذ بن جبل وعلى الميسرة سعيد بن عامر وعلى المشاة في القلب أبا عبيدة بن الجراح وعلى الخيل سعيد بن زيد وأقبل خالد يمر بين الصفوف لا يستقر في مكان يحرض الجند على القتال ويحثهم على الصبر والثبات ويشد من أزرهم وأقام النساء خلف الجيش يبتهلن إلى الله ويدعونه ويستصرخنه ويستنزلن نصره ومعونته ويحمسن الرجال وتهيأ جيش الروم للقتال.

وجعل قادته الرجالة في المقدمة يليهم الخيل وإصطف الجيش في كتائب ومد صفوفهم حتى بلغ كل صف نحو ألف مقاتل وأمر خالد بن الوليد جنوده بالتقدم حتى يقتربوا من جيش الروم وأقبل على كل جمع من جيشه يقول لهم إتقوا الله عباد الله قاتلوا في الله من كفر بالله ولا تنكصوا على أعقابكم ولا تهنوا من عدوكم ولكن أقدموا كإقدام الأسد وأنتم أحرار كرام فقد أبيتم الدنيا وإستوجبتم على الله ثواب الآخرة.

ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم فإن الله منزل عليهم رجزه وعقابه ثم قال أيها الناس إذا أنا حملت فإحملوا وكان خالد بن الوليد يرى تأخير القتال حتى يصلوا الظهر وتهب الرياح وهي الساعة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب القتال فيها ولو أدى ذلك أن يقف مدافعا حتى تحين تلك الساعة وأعجب الروم بكثرتهم وغرتهم قوتهم وعتادهم فبادروا بالهجوم على الميمنة حيث يقف معاذ بن جبل فثبت المسلمون.

ولم يتزحزح أحد فأعادوا الكرة على الميسرة حيث سعيد بن عامر فلم تكن أقل ثباتا وصبرا من الميمنة في تحمل الهجمة الشرسة وردها فعادوا يمطرون المسلمين بنبالهم فتنادى قادة المسلمين طالبين من خالد بن الوليد أن يأمرهم بالهجوم حتى لا يظن الروم بالمسلمين ضعفا ووهنا ويعاودون الهجوم عليهم مرة أخرى فأقبل خالد بن الوليد على خيل المسلمين وقال إحملوا رحمكم الله على إسم الله فحملوا حملة صادقة زلزلت الأرض من تحت أقدام عدوهم.

وإنطلق الفرسان والمشاة يمزقون صفوف العدو فإضطربت جموعهم وإختلت قواهم وفي هذه المعركة أبلى المسلمون بلاءا حسنا وضربوا أروع الأمثلة في طلب الشهادة وإظهار روح الجهاد والصبر عند اللقاء وبرز في هذا اليوم من المسلمين ضرار بن الأزور الأسدى أحد أشجع فرسان المسلمين وكان يوما مشهودا له وبلغ جملة ما قتله من فرسان الروم ثلاثين فارسا.

كما قتلت الصحابية الجليلة أم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومية زوجة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أربعة من الروم بعمود خيمتها وبلغ قتلى الروم في هذه المعركة أعدادا هائلة تجاوزت الآلاف وإستشهد من المسلمين 450 شهيدا وبعد أن إنقشع غبار المعركة وتحقق النصر أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه برسالة إلى الخليفة أبي بكر الصديق يبشره بالنصر وما أفاء الله عليهم من الظفر والغنيمة جاء فيها أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق.

إنا إلتقينا نحن والمشركين وقد جمعوا لنا جموعا جمة كثيرة بأجنادين وقد رفعوا صلبهم ونشروا كتبهم وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنون أو يخرجونا من بلادهم فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله فطاعناهم بالرماح ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم في كل فج فأحمد الله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه فلما قرأ الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرسالة فرح بها وقال الحمد لله الذى نصر المسلمين وأقر عيني بذلك وكانت هذه المعركة أول لقاء كبير بين جيوش الخلافة الراشدة والروم البيزنطيين في تاريخ الصراع على الشام.

حشد هرقل لجيش الروم باليرموك

وامام هزيمة الروم في أجنادين حشد هرقل جيشا ضخما يضم مائة وعشرين ألفا من الجنود من مختلف الولايات البيزنطية منهم فرقة من العرب المسيحيين تقدر بإثني عشر ألفا من الغساسنة ولخم وجذام بقيادة جبلة بن الأَيهم وفرقة من أرمينية تضم أيضا إثني عشر ألفا بقيادة جرجة بن توذار وكتب إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية يطلب نجدة عاجلة تساعده على التخلص من موقفه العصيب.

وكان ذلك في الواقع رغبةً منه في تحقيق إنتصار على المسلمين يعيد إليه هيبته وإلى الإمبراطورية مكانتها وإجلاء أعدائها عن الشام وإستردادها ونزل الروم بين دير أيوب واليرموك وكانوا بقيادة تذارق شقيق هرقل يساعده القائد الأرمني ماهان وعلم المسلمون بواسطة العيون التي بثوها بين البيزنطيين بهذا الحشد الضخم فتحرك جيش المسلمين والذى كان منقسما إلى أربعة ألوية إلى اليرموك فوجدوا البيزنطيين قد سبقوهم إليه.

فنزلوا عليهم بحذائهم وعلى طريقهم إذ ليس للبيزنطيين طريق إلا عليهم وبلغت قوة المسلمين ما بين 36 ألفا إلى 40 ألفا وعندما تواجه الجمعان في سهل فسيح شمال اليرموك يعرف بالواقوصة أدرك قائد المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه أهمية هذه المعركة الفاصلة في حروب الشام وأظهر حنكة ومهارة عسكريةً عبر محاولته توحيد جيوش المسلمين الأربعة تحت قيادة واحدة حيث حتى هذه اللحظة كانت جيوش المسلمين الأربعة منقسمة.

ولكل منها أمير فخطب في الأمراء داعيا إياهم إلى توحيد إمارة الجيش تحت قيادته لأن هذه المعركة إما ستفتح على المسلمين أبواب الشام على مصراعيها أو لن يفلحوا بعدها أبدا إن هزموا لا قدر الله وهكذا ولى أُمراء الجيوش الأربعة عليهم خالد بن الوليد في ذلك اليوم وهم يتوقعون أن المعركة ستستمر عدة أيام .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب وأي نسخ أو تعديل أو تضمين للمقال يتم من خلال الكاتب / أ. طارق بدراوي .

انتظرونا في الحلقات القادمة مع أحداث جديدة من حياة الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه من سلسلة الشخصيات الإسلامية العظيمة، نتعرف معا عن قرب عليها ونلقي الضوء على جوانب حياتية ومعلومات قيمة لا يعرفها الكثيرون فتابعونا ،،

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *