وصول وفد المسلمين إلى كتسفون ومقابلة يزدجرد الثالث ملك الفرس وقام أيضا قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بإختيار أجود الخيول العربية الأصيلة لوفد العمالقة الأربعة عشر وقام هؤلاء بلبس أفضل الملابس وتقدموا ليعبروا بوابة كتسفون عاصمة الإمبراطورية الفارسية الساسانية والأرض من تحتهم ترتج إرتجاجا فخرج عامة الفرس من على أسطح منازلهم وشرفات نوافذهم وتدافعوا في طرقات المدينة لكي يلقوا نظرة على أولئك العمالقة الذين لم تر فارس في تاريخها رجالا مثلهم وقد وصفت لنا ذلك المنظر الأسطورى لعمالقة العرب الموحدين إحدى النساء الفارسيات اللائي أسلمن بعد ذلك بقولها.
فوقفنا ننظر إليهم ووالله ما رأينا أربعة عشر رجلا مثلهم قط يعادل الواحد منهم ألف رجل وإن خيولهم لتنفث غضبا وتضرب في الأرض ووقعت في قلوبنا المهابة فتشاءمنا ولما بلغ الوفد العاصمة الفارسية كتسفون تلكأ يزدجرد في إستقبالهم في البداية ولما دخلوا عليه سألهم ما جاء بكم وما دعاكم لغزونا والولوغ ببلادنا أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم إجترأتم علينا فأجابه النعمان بن مقرن ذاكرا له كيف بعث الله رسوله وما جاء به من عند الله من خير ودعاه إلى الإسلام قائلا ثم أمرنا أى الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف.
فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء أى الجزية فإن أبيتم فالمناجزة فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم وإن إتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم وكان هذا الكلام من الصعب علي كسرى أن يسمعه فتملكه الغيظ والغضب وأجاب الوفد جوابا يغريهم بما عنده من مال وألبسة وطعام وبعد أخذ ورد غضب كسرى غضبا شديدا فخاطب الوفد قائلا بغلظة لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم لا شئ لكم عندى وهنا إنصرف الوفد عائدا إلي القائد سعد بن أبي وقاص ولقد ترك الوفد لا سيما كلام النعمان أثرا معنويا سيئا في نفس كسرى ورجاله.
ولهذا قال كسرى بعد مغادرة الوفد يخاطب رستم قائد الفرس ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء ما أنتم بأحسن جوابا منهم ولقد صدقني القوم لقد وعدوا أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه ولما نشب القتال في القادسية كان قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قد أصابه عرق النسا ودمامل في جسده فلم يعد يستطيع الركوب فكان يجلس على سطح قصر قديس وهو حصن مطل على ميدان المعركة متكئ على صدره فوق وسادة وهو ينظر إلى الجيش ويدبر أمره وجعل أمر الحرب إلى نائبه خالد بن عرفطة .
سعد بن أبي وقاص: معركة القادسية
وفي أول يوم من أيام معركة القادسية والتي تعد المعركة المحورية في فتوحات العراق وفارس الخميس 13 شعبان عام 15 هجرية صلى سعد بالناس صلاة الظهر ثم خطب الناس فوعظهم وحثهم ثم تلا وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وقرأ القراء آيات الجهاد وسوره.
ثم كبر أربعا ثم بدأ القتال وإستمر أربعة أيام وفي اليوم الثالث وكانت خيول المسلمين تفر من فيلة الفرس إستطاع المسلمون خلال هذا اليوم قلع عيونها وقطع خراطيمها وقتل بعضها ومن عليها وأبلى جماعة من أبطال المسلمين الشجعان خلال الأيام الأربعة للمعركة بلاءا حسنا وأبدوا بطولات رائعة كان منهم طليحة بن خويلد الأسدى وعمرو بن معديكرب الزبيدى والقعقاع بن عمرو التميمي وشقيقه عاصم بن عمرو وجرير بن عبد الله البجلي وضرار بن الخطاب الفهرى وخالد بن عرفطة والربيل بن عمرو وحمال بن مالك.
ولما جاء وقت الزوال من اليوم الرابع للمعركة وهو يسمى يوم القادسية وهو يوم الأحد 16 من شهر شعبان عام 15 هجرية هبت ريح شديدة فرفعت خيام الفرس عن أماكنها وألقت سرير رستم فبادر فركب بغلته وهرب فأدركه المسلمون وقتلوه وقتلوا الجالينوس أحد قادة الفرس في المعركة وإنتهت المعركة بإنتصار حاسم للمسلمين وهزيمة ساحقة للفرس وقتل المسلسلون من الفرس وكانوا ثلاثين ألفا وقتل أيضا في المعركة عشرة آلاف من الفرس.
وقتل من المسلمين ألفان وخمسمائة شهيد وقد غنم المسلمون في هذه المعركة الكثير من الأموال والسلاح وبعث سعد بن أبي وقاص بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذى كان يستخبر عن أمر القادسية كل مَن لقيه من الركبان ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق يستنشق الخبر فبينما هو ذات يوم من الأيام إذا هو براكب يلوح من بعيد فإستقبله عمر فإستخبره فقال له فتح الله على المسلمين بالقادسية.
وغنموا غنائم كثيرة وجعل يحدثه وهو لا يعرف عمر وعمر ماش تحت راحلته فلما إقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة فعرف الرجل عمر فقال يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة فقال لا حرج عليك يا أخي وكان عمر قد وصل عند المسجد النبوى فخر ساجدا شكرا لله أن من الله على المسلمين بالنصر المبين على الفرس المشركين .
زحف المسلمين نحو كتسفون والإستيلاء على إيوان كسرى
وبعد ذلك زحف المسلمون نحو كتسفون عاصمة الفرس وفتحوا في طريقهم بهرسير إحدى ضواحي كتسفون ثم عبروا نهر دجلة وإستولوا علي كتسفون ودخلوا إيوان كسرى الشهير وجعلوه مصلى لهم وكان ذلك في شهر صفر عام 16 هجرية وبعد هزيمة كسرى في القادسية وفراره أمام جيش المسلمين ولما تم فتح كتسفون كان كسرى يعمل على إثارة أهل فارس وجمع كلمتهم للدفاع عن بلادهم وإعادة ما خسروه من بلاد فارس أمام العرب.
واقام بمدينة حلوان وهي بغرب إيران حاليا وأخذ يجمع أفراد جيشه المنهزمين والذين فروا من القادسية ومن حلوان تقدم قسم من الجيش الذى حشده يزدجرد إلى جلولاء وهي حصن يقع شمال المدائن أحاطوه بخندق وأحاطوا الخندق بحسك الحديد وهي عبارة عن مسامير تبرز من الأرض لإعاقة حركة المشاة والخيول إلا طرقهم فبلغ ذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فأرسل إلى عمر فكتب اليه عمر أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء.
وإجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو وإن هزم الله الفرس فإجعل القعقاع بين السواد والجبل وليكن الجند إثنى عشر الفا ففعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ذلك وسار هاشم من المدائن في إثنى عشر الفا منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن كان إرتد أو لم يرتد كان منهم جرير بن عبد الله البجلي وطليحة بن خويلد الأسدى وعمرو بن معديكرب الزبيدى وحاصر المسلمون الفرس فطاولهم الفرس وجعلوا لا يخرجون عليهم الا إذا أرادوا وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا فظفروا عليهم وغلبوهم على الحسك.
وجعل سعد بن وقاص رضي الله عنه يمد هاشما بالفرسان وأخيرا إقتتلوا فهزم أهل فارس وبعث الله عليهم ريحا أظلمت عليهم البلاد ثم عادوا فإقتتلوا قتالا شديدا وإنتهى القعقاع إلى باب الخندق وإستولى عليه وحمل عليهم المسلمون فهزموهم وقتل منهم نحو مائة ألف وكان فتح جلولاء في أوائل شهر ذي القعدة عام 16 للهجرة وبينها وبين المدائن تسعة أشهر وقدم القعقاع حلوان وكان أيضا جرير بن عبد الله البجلي ضمن جيشه وكان قد أرسله عمر ليكون ردءا للمسلمين هنالك ومرابطا لكسرى حيث هرب فسار وأدرك قائد الفرس في جلولاء وهو مهران الرازى فقتله وهرب منه الفيرزان فلما وصل إلى كسرى وأخبره بما كان من أمر معركة جلولاء وما جرى على الفرس بعدها.
وكيف قتل منهم مائة ألف وأن مهران قتل هرب عند ذلك كسرى من حلوان إلى الرى في إتجاه بحر قزوين وإستخلف عليها خشرشنوم فلما وصل القعقاع قصر شيرين خرج عليه خشرشنوم وقدم إليه الزينبي دهقان حلوان فلقيه القعقاع فقتل الزينبي وهرب خشرشنوم وإستولى المسلمون على حلوان وبقي القعقاع بها وكتبوا إلى عمر رضي الله عنه بالفتح المبين وبنزول القعقاع حلوان وإستأذنوه في إتباع الفرس فأبى وقال لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم حسبنا من الريف السواد إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال .
حشود الفرس ضد المسلمين في الأهواز
ولم يصمت يزدجرد أمام هذه الهزائم المتتالية وأثمرت محاولاته في توحيد جهود الفرس وأهل الأهواز في سبيل صد عدوهم المشترك وتم تجهيز جيش فارسي بقيادة الهرمزان أحد قادة الفرس الكبار الذين فروا من معركة القادسية بعد الهزيمة التي لحقت بهم وقد أخبر قادة المسلمين في منطقة الأهواز وهي حاليا تقع جنوب غرب إيران وتطل علي الخليج العربي الخليفة عمر بن الخطاب بإجتماع كلمة أتباع كسرى على قتال المسلمين.
فما كان من الخليفة عمر إلا أن كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن إبعث إلى الأهواز جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن المزني وعجل ولينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحققوا أمره وتحرك النعمان بأهل الكوفة إلى الأهواز على البغال في عام 17 هجرية فلما وصلها بادر إلى مهاجمة جيش الهرمزان في مدينة رام هرمز غربي إيران فهزم الفرس وفتح المدينة ولجأ الهرمزان إلى مدينة تستر القريبة منها فسار النعمان بقوات الكوفة إليه.
وسارت قوات البصرة إلى تستر أيضا وكان أبو سبرة بن أبي رهم قائدا عاما على الجميع فإستولى عليها بعد حصار دام أكثر من شهر ثم خرج أبو سبرة لمطاردة المنهزمين إلى مدينة السوس وهي تقع جنوبي إيران حاليا ونزل عليها ومعه النعمان بن مقرن المزني وحاصر النعمان السوس.
ثم إقتحمها عنوة وتم أسر الهرمزان وإرساله أسيرا إلي الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة المنورة وقام سعد بن أبي وقاص بتعيين النعمان على كسكر وهي تقع بوسط العراق بين الكوفة والبصرة فكره النعمان منصبه الإدارى هذا وكتب إلى عمر يسأله أن يعزله لأنه لا يريد أن يكون موظفا ولا جابيا بل يريد أن يعيش في سبيل الله غازيا .
معركة نهاوند أو فتح الفتوح
وفي ذلك الوقت كان يزدجرد قد إستطاع أن يحشد جيشا فارسيا ضخما في نهاوند بشمال غرب إيران حاليا وجعل الفيرزان قائدا له وبالطبع فقد بلغ ذلك الأمر الخليفة عمر بن الخطاب فقال أشيروا على أيها الناس برجل أوله ذلك الثغر غدا قالوا أنت أفضل رأيا وأحسن مقدرة قال أشيروا علي به وإجعلوه عراقيا
قالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم فقال أما والله لأولين أمرهم رجلا ليكونن لأول الأسنة إذا لقيها غدا فقيل من يا أمير المؤمنين فقال النعمان بن مقرن المزني فقالوا هو لها وكان النعمان يومئذ بالبصرة ومعه قواد من قادة أهل الكوفة أمدهم بهم عمر فكتب إليه عمر بالخبر وإني قد وليتك حربهم فسر من وجهك ذلك حتى تأتي مدينة ماه بشمال غرب إيران حاليا فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها فإذا إجتمع لك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن تجمع إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم.
وإستنصروا الله وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وإلتقى جيش المسلمين بجيش الفرس في حرب شديدة قرب مدينة نهاوند وقيل كان ذلك في شهر رمضان عام 18 هجرية وقيل عام 21 هجرية وظلت المعركة يومين لم يستطع أحد الجيشين خلالهما أن يحقق النصر على الآخر وفي اليوم الثالث نجح المسلمون في أن يبعدوا الفرس عن مواقعهم ويدخلوهم خنادقهم وحصونهم ويحاصرونهم فيها وطال حصار المسلمين للفرس ففكر النعمان وجنده في حيلة يخرجون بها الفرس من حصونهم فأشار طليحة بن خويلد الأسدى رضي الله عنه بأن يوهم بعض المسلمين الفرس أنهم قد إنهزموا وينسحبوا من الميدان فينجذب نحوهم الفرس ويتركوا مواقعهم ثم ينقض عليهم الجيش الإسلامي كله مرة واحدة فيهزموهم بإذن الله .
إعادة تنظيم جيش المسلمين وتحقيق النصر بنهاوند
وقام قائد الجيش النعمان بن مقرن بإعادة تنظيم جيشه وكان عدده ثلاثون ألفا وعبأ الكتائب وجعل على مقدمة الجيش شقيقه نعيم بن مقرن وعلى المجنبتين حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن وعلى المجردة أي علي الفرسان القعقاع بن عمرو التميمي وعلى الساقة مجاشع بن مسعود ونفذ القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه الخطة التي أشار بها طليحة مع بعض جنود المسلمين.
ونجحت الحيلة وظن الفرس أن في جيش المسلمين ضعفا فخرجوا وراءهم ليقضوا عليهم فإنقض المسلمونع علي جيش الفرس وعلى رأسهم القائد النعمان بن مقرن والذى ظل يقاتل حتى سقط شهيدا في أرض المعركة بعد أن إنزلق فرسه بسبب الدماء التي غطت أرض المعركة فأصابه سهم في جنبه ولما زلق فرس النعمان رضي الله عنه به لمحه معقل بن يسار فجاءه بقليل من الماء فغسل عن وجهه التراب فقال النعمان من أنت قال أنا معقل بن يسار قال ما فعل الناس قال فتح الله عليهم فقال النعمان الحمد لله إكتبوا بذلك إلى عمر وكانت هذه هي آخر كلماته وفاضت روحه إلي بارئها.
وقبل أن تقع الراية من يده أسرع إليه أخوه نعيم رضي الله عنه وأخذ الراية منه ليواصل المسلمون جهادهم ويكتم نعيم خبر إستشهاد القائد ويتولي القيادة الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذى أوصى النعمان بن مقرن له بقيادة الجيش من بعده ولما أظلم الليل وبعد أن إنهزم الفرس هربوا بدون نظام فوقعوا في واد فكان إذا وقع احدهم يقع معه ستة فمات في هذه المعركة 100 ألف أو يزيد حيث قتل في الوادى فقط 80 ألفا وهرب القائد الفارسي الفيرزان وعلم بهربه القعقاع بن عمرو فتبعه هو ونعيم بن مقرن فأدركاه في واد ضيق فقتله القعقاع وبذلك إنتهت المعركة بنصر كبير أعز الله به الإسلام والمسلمين .