من قصص شخصيات إسلامية خالد بن الوليد وأحداث اليوم السادس لمعركة اليرموك وإنتصار المسلمين على الروم، إستعرضنا في الحلقة السابقة مقدمات معركة اليرموك بين جيش المسلمين وجيش الإمبراطورية الرومية البيزنطية وتولي خالد بن الوليد القيادة العامة لجيش المسلمين وإعادة حشده وتعبئته التعبئة المناسبة للمعركة وإستعرضنا أيضا أحداث الأيام الخمسة الأولى من المعركة والتي إتبع في أغلبها المسلمون إستراتيجية دفاعية.
وجاء اليوم السادس الحاسم والذى تحول فيه جيش المسلمين إلى إستراتيجية الهجوم فبينما بدأت ميسرة جيش المسلمين بقيادة يزيد بن أبي سفيان والقسم الأيسر من القلب بقيادة أبي عبيدة بن الجراح بالقتال على جبهتيهما هاجم خالد بن الوليد بوحدة الخيالة الموحدة الميمنة البيزنطية وفي الوقت نفسه شطر قِسما من مجموعة الخيالة لمهاجمة الطرف الأيسر من الميسرة البيزنطية بينما قام عمرو بن العاص قائد الميمنة في الوقت نفسه بشن الهجوم على الميسرة الرومية البيزنطية.
التي كانت بقيادة قناطر وقد صمدت الميسرة البيزنطية بقيادة قناطر أمام الهجومين من الأمام ومن اليسار ولكن بفقدان الدعم من فرق الخيالة البيزنطيين الذين إنشغلوا بصد هجوم فرسان المسلمين تراجعت قوات قناطر بإتجاه القسم الأيسر من قلب الجيش الرومي حيث يقاتل الأرمن بقيادة ماهان وبعد رؤية هذا التحول إستغل عمرو بن العاص قائد الميمنة الإسلامية تلك اللحظات ليشن هجوما مباغتا على الجانب الأيسر من قلب جيش الروم من جهته اليسرى.
فأصاب القسم الأيسر من قلب الجيش البيزنطي إختلال في التوازن بسبب الجنود المتراجعين وفي الوقت نفسه شدد شرحبيل بن حسنة قائد القسم الأيمن من قلب الجيش الإسلامي من هجومه على القلب البيزنطي من الأمام وهنا تقهقر الجناح الأيسر للجيش البيزنطي وراح المسلمون يستغلون ذلك ويتابعون تقدمهم وأوعز خالد بن الوليد للفرسان بترك القتال الرئيسي الدائر والعودة إلى الوحدة الرئيسية لعزل الخيالة البيزنطيين عن مشاتهم وإبعادهم عن الجيش البيزنطي بشكل كامل بإتجاه الشمال.
وعندما رأى ماهان ذلك دعا كافة الخيالة الروم للتجمع خلف قلب الجيش البيزنطي لتنظيم هجوم معاكس ضد الخيالة المسلمين ولكن ماهان لم يكن سريعا بالشكل الكافي فقد تقدم خالد سريعا لمهاجمة الخيالة أثناء تجمعهم وذلك من الجهتين الأمامية والجانبية بينما كانوا في مناورات التحضير للهجوم المعاكس وكان الفرسان المسلمين المسلحين بشكل خفيف مؤهلين أكثر بل متفوقين من حيث سرعة التحرك والمناورة.
حيث كانوا يستطيعون الهجوم والتراجع بسرعة والعودة للهجوم مرة أخرى وسارع الخيالة البيزنطيون إلى الهرب بإتجاه الشمال في حالة من الفوضى والعشوائية تاركين المشاة لمصيرهم المحتوم وكان بينهم كذلك قوات المسيحيين العرب الذين يقودهم جبلة بن الأيهم الراكبة حيث تفرقت بإتجاه دمشق وبعد تشتت فرق الخيالة البيزنطيين تحول خالد بن الوليد إلى نواة جيش الروم البيزنطيين الأرمن بقيادة ماهان لمهاجمتهم من الخلف.
وكان الأرمن من المقاتلين الأشداء الذين كانوا على وشك النصر على المسلمين قبل يومين عندما قاموا بإختراق جيش المسلمين ولكن تحت ضغط الهجمات من إتجاهات ثلاثة في آن واحد فرقة الخيالة بقيادة خالد بن الوليد من جهة الخلف وجنود عمرو بن العاص من جهة اليسار وجنود شرحبيل بن حسنة من الأمام وبدون دعم من الفرسان الروم إضافة إلى الخلل الجسيم الذي أحدثته في صفوفهم جنود قناطر المتراجعة فلم يكن للأرمن أي فرصة بالصمود فهزموا شر هزيمة .
أثر هزيمة الأرمن في إنتصار المسلمين على جيش الروم
وبهزيمة الأرمن هزمت كافة الجيوش البيزنطية فتشتت البعض بشكل عشوائي مرعوبين والبعض تراجع بإنتظام بإتجاه الغرب نحو وادي الرقاد ولكن عندما وصلت قوات البيزنطيين إلى المعبر الضيق على نهر اليرموك كانت مجموعة من فرسان المسلمين بقيادة ضرار بن الأزور بإنتظارهم كجزء من خطة قائد جيش المسلمين خالد بن الوليد الذي كان قد أرسل في الليلة السابقة سرية من الخيالة تقدر بحوالي 500 رجل لسد المعبر الضيق الذي يبلغ عرضه 500 متر فقط.
وفي الحقيقة فقد كان هذا الطريق هو الذي كان يرغب خالد بن الوليد للروم أن يسلكوه في تراجعهم في حال نجحت خطته وفي هذا الوقت أخذ جنود المشاة المسلمون يتقدمون من الشرق وفرسان خالد بن الوليد يتقدمون من جهة الشمال ليصلوا إلى وحدة خيالة المسلمين التي تراقب المعبر الضيق من جهته الغربية وإلى الجنوب كان هناك الجرف العميق التابع لنهر اليرموك والذى تراجعت إليه القوات البيزنطية.
وبدأ الإنحصار والمرحلة النهائية من المعركة عندما إندحر القسم الأكبر من القوات البيزنطية بإتجاه الجرف تحت تأثير القتال من جهة الأمام بينما كانوا يتراجعون بإتجاه المركز نتيجة الهجوم من الجانب حيث نجم عن ذلك إختلال التوازن تماما في جيش الروم وكان نتيجة ذلك أن فقد الجيش البيزنطي المتحالف كل فرص النصر أو حتي التراجع المنظم ووصل إلى النقطة التي يتجنبها كل القواد العسكريين وهي أن تتفرق قواتهم بشكل عشوائي وتصبح وحداتهم عبارة عن حطام.
فقد إنحصر الجيش البيزنطي بشكل لم يعد يستطيع فيه الجنود إستخدام سلاحهم بشكل طبيعي ولذلك فقد هزموا بسرعة محاولين إيجاد طريق للهرب عبر الجرف دون جدوى فهوى بعضهم في الجرف بينما سقط الآخرون قتلى أو أسروا لتنتهي بذلك معركة اليرموك بنصر ساحق لجيش المسلمين علي جيش الروم .
مطاردة خالد بن الوليد لماهان قائد الروم وقتله
ولاحظ المسلمون عدم وجود خالد بن الوليد مساء هذا اليوم في معسكرهم بعد إحراز النصر وإنتهاء المعركة ولم يشاهد إلا في مساء اليوم التالي حيث كان قد تابع وفريقه فلول ماهان المتجهة إلى دمشق وإشتبك معهم ليقتل ماهان على يد أحد المقاتلين المسلمين فقد قطع رأسه وصرخ والله لقد قتلت ماهان وكانت العادة السائدة آنذاك أن المعركة تنتهي بهرب الجيش المنكسر ولذلك فكان آخر ما توقعه ماهان وجنوده المنهزمون هو متابعة خالد لهم.
والذى كان دائما يطارد فلول الجند المنهزمين في أى معركة حيث يكونون في أضعف حالاتهم ومن ثم تكون خسائرهم عالية مما يفقد أعدائه روحهم المعنوية من ناحية كما أنه كان يدرك أن هؤلاء الفارين سيتم تجميعهم مرة أخرى وحشدهم ضد جيوش المسلمين وقد حظا حظوه جميع قادة المسلمين الذين قادوا المعارك بعد اليرموك مثل المثني بن حارثة الشيباني وسعد بن أبي وقاص وعياض بن غنم الفهرى والنعمان بن مقرن المزني وعمرو بن العاص وغيرهم.
ونستطيع في هذا المقام أن نقول إن سيف الله المسلول خالد بن الوليد كان حقا مدرسة تخرج منها الكثيرون حتي الذين تربوا من الناحية العسكرية بعيدا عنه لكن بلا شك أنهم عندما زاملوه وقاتلوا معه جنبا إلي جنب قد أضاف ذلك إلي خبراتهم وتجاربهم وكان أولهم نائبه القعقاع بن عمرو التميمي وأخوه عاصم بن عمرو التميمي عملاقا وفارسا وسيدا بني تميم والمثني بن حارثة الشيباني والمعني بن حارثة الشيباني سيدا وعملاقا وفارسا بني شيبان وغيرهم .
تقييم معركة اليرموك
وكانت معركة اليرموك بحق من أعظم المعارك الإسلامية وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي فقد لقي جيش الروم أقوى جيوش العالم يومئذ هزيمة قاسية وفقد زهرة جنده وقد أدرك هرقل الذي كان في مدينة حمص في ذلك الوقت يراقب ويتابع معركة اليرموك وما قبلها حجم الكارثة الكبرى التي حلت به وبدولته فغادر سوريا نهائيا وقلبه ينفطر حزنا وهو يقول سلام عليك ياسوريا سلام لا لقاء بعده وقد ترتب على هذا النصر العظيم أن إستقر المسلمون في بلاد الشام.
وإستكملوا فتح مدنه جميعا ثم واصلوا مسيرة الفتح إلى الشمال الأفريقي ومن باب تقييم هذه المعركة فيمكن النظر إلىها كمثال في التاريخ العسكري عندما تستطيع قوة عسكرية صغيرة تحت قيادة حكيمة محنكة التغلب على قوة عسكرية تفوقها عددا وعدة كما أن قادة الروم قد سمحوا لعدوهم بإختيار أرض المعركة التي يريدها وحتى ذلك الحين لم يكن لديهم ضعف تكتيكي كبير إلا أن عبقرى الحرب خالد بن الوليد أدرك منذ البداية بأنه أمام قوة كبيرة جدا وحتى قبل اليوم الأخير من المعركة أدار خطة دفاعية فعالة ملائمة لإمكانياته البشرية المحدودة نسبيا في وعندما قرر الهجوم في اليوم الأخير من المعركة.
فقد قام بذلك معتمدا علي درجة كبيرة من التخيل وبعد النظر والشجاعة في نفس الوقت الأمر الذي لم يتصوره أي من القادة البيزنطيين وبالرغم من أنه قاد قوة صغيرة عدديا وكان بأمس الحاجة إلى كل الرجال الذين يمكن جمعهم فقد كانت لديه الجرأة وبعد النظر لشطر فرقة من خيالته في الليلة التي سبقت هجومه لتأمين الطريق الحيوي الذى يريد أن يسلكه الروم في إنسحابهم لكي يقعوا في هاوية الواقوصة .
خالد بن الوليد ابرع قادة الفرسان في التاريخ
وحقا فقد كان خالد بن الوليد واحدا من أجود وأبرع وأمهر قادة الفرسان في التاريخ وتفوق علي الإسكندر الأكبر وهانيبال كما كان من أبرع القواد في حروب الصحراء ويقول ثعلب الصحراء القائد الألماني الفذ إرفين روميل إن أستاذه في حروب الصحراء هو خالد بن الوليد حيث أظهر إستخدامه للقوة الراكبة طوال المعركة مدى فهمه لإمكانيات وقوة جنود الفرسان حيث قامت فرقة خيالته المتحركة طوال أيام معركة اليرموك بتحركات سريعة من نقطة إلى أخرى محولةً دائما مجرى الأحداث في المكان الذي تقدم عليه.
ثم تعدو بسرعة إلى مكان آخر من أرض المعركة لتغير بشكل فعال المسار الذي تذهب إليه المعركة وهكذا كما أن ماهان ولا قادته العسكريين تعاملوا أبدا بشكل فعال مع قوة الفرسان حيث لم تلعب فرق خيالتهم أي دور مهم في المعركة بل حفظت كقوة إحتياطية ساكنة معظم أيام المعركة ولم يدفع البيزنطيون أبدا بهجوم حاسم حتى عندما حققوا ما كان ممكن أن يكون إختراقا حاسما لصفوف المسلمين في اليوم الرابع من المعركة.
حيث فشلوا في إستغلاله وقد ظهر جليا إفتقاد جميع القادة البيزنطيين القدرة على إيجاد الحلول ويعود السبب في ذلك إلى الخلافات الداخلية فيما بينهم وعدم الإنسجام بين وحدات الجيش التي جمع جنودها من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومية والذين كانوا يتكلمون عدة لغات مما أدى إلى وجود العديد من الصعوبات في القدرة على قيادة الجيش وأكثر من ذلك فإن كثير من جنود القوات العربية المسيحية المساندة في الجيش البيزنطي لم يكونوا مدربين بالقدر الكافي.
حيث كانوا قد جندوا كعمل بديل عن دفع الضرائب بينما كان الجيش العربي الإسلامي مكونا في الجزء الأكبر منه من مقاتلين شجعان أشداء متمرسين جيدى التدريب ويجيدون إستخدام أسلحة عصرهم ويتكلمون لغة واحدة وكلهم ثقة في قادتهم علاوة على حرصهم الشديد بالحصول على إحدى الحسنيين بتحقيق النصر أو الشهادة في سبيل الله فتكون لهم الجنة بإذن الله كما بشرهم بذلك نبيهم الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .
وفاة أبي بكر وتولي عمر بن الخطاب الخلافة وعزل خالد بن الوليد
وبعد أن تحقق النصر في اليرموك أقبل رسول من المدينة المنورة يحمل خبر وفاة الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق وتولي عمر بن الخطاب الخلافة وكان معه كتاب من عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح يولّيه إمارة جيوش المسلمين في الشام ويعزل خالدا إلا أنه ظل تحت قيادة أبي عبيدة كأحد قادته الذين كان يعتمد عليهم ويستشيرهم في كل صغيرة وكبيرة ويأخذ برأيه في أغلب الأحوال حيث كان يعرف قدر خالد وفطنته في وضع الخطط العسكرية وموهبته القيادية.
كما أنه كانت بينهما علاقة ود ومحبة وصداقة قوية ومتينة وقد قيل إن الخطاب المشار إليه والخاص بعزل خالد قد وصل إلى أبي عبيدة بن الجراح قبل وقوع معركة اليرموك بأيام وقيل أثنائها ولم يظهره أبو عبيدة ويخبر به خالد إلا بعد إنتهاء المعركة وتحقيق النصر على الروم خوفا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات الجنود ويفت في عضدهم وإحتراما وتقديرا منه للعمل والمجهود الكبير الذى بذله خالد في حشد وتعبئة الجيش.
وإعادة تنظيمه ووضعه لخطة المعركة المرتقبة مع الروم وعدم بخس حقه في تحقيق النصر عليهم وقد تقبل خالد بن الوليد أمر عزله عندما علم به بصدر رجب وسلم القيادة لأبي عبيدة بن الجراح ووضع نفسه تحت تصرفه ولم يبخل عليه بأى رأى أو مشورة ولما سئل لماذا تفعل ذلك قال إنني أشارك في فتوحات الشام نصرة لدين الله وليس من أجل عمر بن الخطاب ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن عزل عمر لخالد من القيادة العامة لجيوش المسلمين في الشام لم تكن عن خيانة أو تقصير من جانب خالد.
بل كان ذلك حرصا من جانب عمر على عدم تقديس الأشخاص حيث كان قد رأى تعلق الناس بخالد لكثرة إنتصاراته في حروب الردة أولا ثم في فتوحات العراق إنتهاءا بفتوحات الشام وكان الناس ممن دخلوا في الإسلام في البلاد المفتوحة حديثي عهد بالإسلام فخشي من غلو البعض في خالد وأن ينبهروا به فأراد أن يكون تعلق الناس بالله وحده لا بالبشر فما النصر إلا من عند الله .
جميع الحقوق محفوظة للكاتب وأي نسخ أو تعديل أو تضمين للمقال يتم من خلال الكاتب / أ. طارق بدراوي .